بسم الله الرحمن الرحيم
كان السيد " محمد السقا " جالسا في مكتبه الطويل الأشبه بطاولة بليارد يتابع أخبار الرياضة في الصحيفة اليومية .. في اخرغرفة مكتبه الفخم وفوق لوحة تحوي اية الكرسي بخيوط صفراء مطرزة في رقعة سوداء من القطيفة التى جمعت كل أتربة شارع كلوت بك كمغناطيس .. كان ينظر الى الساعة التى قاربت عقاربها على التعامد .. كانت لحظات وينتصب العقرب الطويل حاملا الرقم 12 فوق رأسه .. حينها ينتهي العمل ويتحرر من أعباء ثقيلة يحملها متوهما ..
أخرجه من ملكوته رنين هاتف أسود يشبه رنين جرس دراجة بائع الخبز اذا ما ضربه متكررا وبانتظام .. وهو ما لا يحصل أبدا .. كان على الطرف الاخر زوجته السيدة "علية السيد " أخبرته أن أخوها " الدكتور علي" سيحضر للغداء اليوم .. كان السيد " محمد السقا " متأففاً .. فهو لا يذكر يوما أن يكون قد سمع هذا ال"علي" ينادى بدون "الدكتور" ومعرفاً دائما .. وكأنه صار اسما مركباً له .. وليس لقباً يدل على ممارسة مهنة ما .. حتى أن زوجته ذكرت له انها كانت تحادثه دائما بـ "يا سي الدكتورعلي" قبل أن يسافر الى يوغسلافيا للحصول على الماجستير ثم الدكتوراة ولكنها امتنعت عن ذلك نزولا على رغبة أخيها .. حسناً هو في الأصل لا يأتي للزيارة إلا كل عامين ولا يمكث سوى أقل من ساعة .. سأتحمل ابتسامته الصفراء وحكاياته السمجة عن رحلة كفاحه في يوغسلافيا .. معطفه الرصاصي الذي لا يبدله وتسريحه شعره على طريقة عمر الشريف في فيلم " دكتور زيفاجو" يمنعان أي أذن من ممارسة عملها في الإصغاء لما يقوله .. حسناً سأتحمل من أجل مشاهدة مباراة نهائي كأس العالم .. هل ستفعلها إيطاليا كما وعدت هذه المرة .. آمل ذلك حقا خصوصا أن " روبيرتو باجيو " عنده الكثير ليقدمه ..
أغلق شاشة خياله صوت السيدة عليّة مطالبة اياه بالتركيز لإحضار بعض الطلبات التى تناسب استقبال أخيها الدكتور علي .. لا إراديا أطلق عقل السيد محمد السقا الباطن 4 كلمات .. ساد بعدها صمت يشبه خبر وقوع وفاة في يوم فرح أحدهم "داهية تاخدك انت واختك " صمت هو بلا حيلة .. فكلماته هذه لا يمكن بأي شكل من الأشكال تغييرها لنفي القصد .. جاءت وصلة ردح السيدة علية كصوت احتكاك الطباشير بالسبورة الجديدة .. صوت منفر.. ويوتر الأعصاب .. حاول على قدر استطاعته صد الكلام وتغيير مساره حتى أغلق السماعة وكأن كلامها كان قوة مضادة لاتجاه وضع السماعة لا يستطيع التغلب عليها بسهولة ...
في هذه اللحظة دخل عليه السيد " مراد البلتاجي " كبير موظفيه ومساعده العتيق بشنب رفيع فوق شفته وبدلته المقلمة التي يرتديها يوم الثلاثاء دخل في تملق رتيب دائما ما يقف على بعد ذراع من مكتب السيد محمد السقا وينحني كنادل مخضرم واضعا الدوسيهات بكل حرص على مكتب مديره .. انفجر فيه السيد محمد السقا بلا ادني ذريعة قائلا " انت ازاي يا استاذ تخش عليا المكتب من غير ما تخبط .. يعني أنا أطرش .. وجايبلي دوسيهات ورق ليه .. انت بقالك هنا قد ايه في الشركة دي . وبقالك قد ايه بتشتغل معايا .. انت كمان بتفكر ترد عليا .. برة .. برة يا افندي .. " تقهقر "الأفندي" بحركة تشير إلى أن اسلافه كانوا حتما حجابا لسلاطين الدولة العباسية .. لم يعطيه ظهره الا عندما استدار بخفة ليفتح الباب .. ويغلقه خلفه بحرص .. تسمر قليلا في وضعه ناظرا للباب كأنه مراة .. عدل من هندامه وتأكد من وجود خصلات شعره في مكانها .. استدار في أنفة زائفة .. وذهب الى مكتب مدام " سعاد عبداللطيف " المنهمكة في كتابة رسالة لشركة العز للتجارة المحدودة على الالة الكاتبة .. بلا أي ذريعة انفجر قائلا : انتى ازاي يا انسة تحطي دوسيهات ورق في وسط الدوسيهات .. انسة ولا مدام انتى هتعدلي عليا .. يعني انا اعمى مبشوفش .. جتكو القرف موظفين تنابلة .." قال جملته الأخيرة مبعثرا أوراق الدوسيهات في الهواء فتساقطت كما ندف الثلج .. وولى مدبرا ولم يعقب ..
كان ما حدث في لحظة دخول السيد " صابر المستكاوي " في سرعة وخفة حمل كوب الينسون ووضعه أمام مدام سعاد وهم منصرفا كأنه لم ير شيئا .. اجتذبه صوت حاد من خلفه بلا مقدمات " انت ازاي يا سي صابر تقعد ساعة كدة على ما تجيب اللى طلبته منك جايبلي ينسون بارد .. يعني أرميه في خلقتك دلوقتى عشان تصدقني .. احنا اللى قعدنا ندلع فيك ونعطف عليك لحد ما بقيت تداينّا بفلوس الجمعيات .. لا يا سيدي محدش يبقشش عليا .. خد أهه جتك القرف وانت عامل زي نشالين الاتوبيس كدة " لملم السيد "صابر" الوريقات التى تحمل صورا لمساجد مصر الأثرية وابتلع الاهانة وولى منصرفا .. قابل في وجهه لحظة خروجه السيدة " أم توحة " رد على أمنياتها له بصباح يشبه الفل بقوله " يعني انا لما اقعد أنده ساعة كدة في المصلحة دي ومحدش يرد عليا يبقى ده اسمه ايه .. يعني انا مجنون بألف من دماغي .. انجري يلّا لمي الورق المتبعتر في مكتب مدام سعاد .. ده اللى انتى فالحة فيه .. عدي عليا اخر النهار تقبضي .. يعني هيا الفلوس هتطير .. طيب مش انتى مبتشحتيش شوفي بقى مين اللى هيقبضك فلوس الجمعية " ..
بعد قليل كانت أم توحة قد اصطدمت بالسيد "مختار عاكف " دون قصد وهي ترمي كيس القمامة الأسود الكبير أمام المصلحة .. اصصدم بها السيد مختار لأنه كان يتأمل تنسيق بوكيه الورد الذي دفع فيه تواً عشرة جنيهات ورقة واحدة .. كان يسير بخطى سريعة ايقاعها منضبط تماما ومتفقا مع كل البلاطات الصفراء على الرصيف .. يزيل الوبر العالق بالبالطو الذي ورثه عن والده المرحوم .. وينظر كل لحظة في ساعة لا يريد لها ان تشير الى وقت يعرضه للحرج أمام خطيبته .. بعد الاصطدام .. كانت الورود صرعى تحت أقدام أم توحة .. لملم ما بقي كدليل على صدقه هذه المرة ...وقرر أن يركب سيارة أجرة ويضحي بخمس جنيهات أخريات .. نتيجة لاستعجاله تعدى السيد عاكف على السيد " محيي علام " واغتصب حقه في ركوب سيارة الأجرة .. وأدى دفعه اياه لسقوطه على الأرض مبعثرا أوراق الأخير في الشارع .. انطلق سائق سيارة الأجرة بالسيد مختار وكان " مجدي المناخلي " يبادرفي مثل هذه المواقف زبائنه ملاطفا .. علّهم لا يساومنوه عند دفع الأجرة نتيجة تعكر مزاجهم .. لذلك أسرع للتخفيف عن السيد مختار بدعابة " تفتكتر الاسماعيلي هيغلب ولا المحلة " في اشارة مستترة الى المتنافسين على نهائي كأس العالم وهنا تكمن المفارقة التى نجحت مع كل زبائنه منذ الصباح .. نظر له السيد مختارباحتقار قائلا" خليك في حالك يا جدو وخش اليمين الجاي ده .. اليمين الجاي يا بني ادم .. انت مسمعتنيش .. اعمل انا ايه بأسف أمك ده .. وكمان عايز أجرة .. يا بجاحتك يا أخي .. "
اهتز السيد "مجدي" عند سماعه صوت ارتطام باب سيارته العزيزة .. وسرح بخياله في حسرة لاعنا الزمن الذي صار فيه الأوباش وبقايا القوم يركبون سيارته العزيزة .. لولا الحاجة وتبدل الأحوال لما تخلى عن مبدأه في اختيار زبائنه كما كان يفعل قديما .. قطع تفكيره كلمات السيد " محيي علام " اطلع يا اسطى بسرعة وبطلوا اللي بتشربوه ده بقى " انفجر فيه السيد مجدي " انزل يا ابن **** .. ايوة أنت ***** هوا فيه **** غيرك راكب في العربية .. يلا يا **** يا ولاد ال **** ... انا لسة هستناك لما تلم ورقك يا **** .. " اندفاع السيارة وسقوطه مرة أخرى على الأرض كان بمثابة نهاية العالم بالنسبة لمحيي .. كل ما كان يشغل باله وقتها هو كيف سينتجر بجرعة منوم زائدة أو بأن يرمي بنفسه من شرفته بالطابق الثاني عشر ... عند باب المصعد الكهربائي شعر محيي برغبة في البكاء عندما وجد ورقة مكتوب عليها بخط طالب ابتدائي " الأسانسير عاطلان " هكذا بألف بعد العين ... بقلب يضرب ضلوعه كثوري يهتف ببرائته في سيارة أمن مركزي .. فتح باب شقته .. ليسمع صوت التسجيل الصاخب بأغنية تجبر مؤخرة زوجته على التمايل كبندول الساعة .. لم يتحمل الموقف .. اقترب منها في الشرفة ورد على ابتسامتها ذات المغزى بقوله .. هوا انتى موراكيش حاجة في الدنيا دي غير تنقية الرز .. كان يوم إسود يوم ما اتجوزتك .. روحي في ستين داهية .. اديني سايبهولك اهه .. انا رايح اكل عند أمي .. حسك عينك تتصلي بيا عندها انتى فاهمة " غاص وجهها بين كفيها محاولة كتم صوت أنينها عن أعين الجيران الشامتة وعن شفاههن المتلمظة .. دخلت من الشرفة باتجاه التسجيل لإطفائه فلم يكن اليوم مثاليا أبدا لتدرك أن أسمهان لا تعرف شيئا عن تفاصيل حياة الذكر المصري .. عندها اصطدم بها "وائل" حاملا في يديه مسطرة مثبتتة بقلمي جاف عند أطرافها وقلم اخر في منتصفها .. وبشفاه تصدر صوت حرف V مضموم .. بعدما اصصدم بامه .. ضحك في براءة .. بعدها لم يفهم ماهية النقاط الملونة الصغيرة التى رأتها عينه حين هوت أصابع أمه الخمسة على خده الأيسر ... صمت لمدة أحس أنه قد أصبح كهلا .. ثم بدأ صوت بكاءه في التصاعد كصوت الغارات الجوية في الحرب العالمية الثانية التى كانت تملأ سماء ستالينجراد في ليالي عام 1945 الباردة المظلمة ...
اندفع "وائل" ناحية الباب وهرول باتجاه سطح البناية .. أسند ظهره الى الحائط ضاماً ركبيته الى صدره .. عندها لمح هرة تحاول البحث عن بعض ما علق بين ثنايا سلسلة ظهرية لسمكة كانت منذ قليل تغلي في زيت حارق ... حاول قذف الهرة بالحجارة وبقايا أعمال البناء فحال بين الهرة وبين وجبتها التى يندر ان تجد مثيلتها مؤخرا ... في المساء وقفت الهرة في شموخ ورفعت قدمها الخلفية اليسرى وحددت منطقتها على زجاج سيارة السيد " مجدي المناخلي " ... (انتهت )
كان السيد " محمد السقا " جالسا في مكتبه الطويل الأشبه بطاولة بليارد يتابع أخبار الرياضة في الصحيفة اليومية .. في اخرغرفة مكتبه الفخم وفوق لوحة تحوي اية الكرسي بخيوط صفراء مطرزة في رقعة سوداء من القطيفة التى جمعت كل أتربة شارع كلوت بك كمغناطيس .. كان ينظر الى الساعة التى قاربت عقاربها على التعامد .. كانت لحظات وينتصب العقرب الطويل حاملا الرقم 12 فوق رأسه .. حينها ينتهي العمل ويتحرر من أعباء ثقيلة يحملها متوهما ..
أخرجه من ملكوته رنين هاتف أسود يشبه رنين جرس دراجة بائع الخبز اذا ما ضربه متكررا وبانتظام .. وهو ما لا يحصل أبدا .. كان على الطرف الاخر زوجته السيدة "علية السيد " أخبرته أن أخوها " الدكتور علي" سيحضر للغداء اليوم .. كان السيد " محمد السقا " متأففاً .. فهو لا يذكر يوما أن يكون قد سمع هذا ال"علي" ينادى بدون "الدكتور" ومعرفاً دائما .. وكأنه صار اسما مركباً له .. وليس لقباً يدل على ممارسة مهنة ما .. حتى أن زوجته ذكرت له انها كانت تحادثه دائما بـ "يا سي الدكتورعلي" قبل أن يسافر الى يوغسلافيا للحصول على الماجستير ثم الدكتوراة ولكنها امتنعت عن ذلك نزولا على رغبة أخيها .. حسناً هو في الأصل لا يأتي للزيارة إلا كل عامين ولا يمكث سوى أقل من ساعة .. سأتحمل ابتسامته الصفراء وحكاياته السمجة عن رحلة كفاحه في يوغسلافيا .. معطفه الرصاصي الذي لا يبدله وتسريحه شعره على طريقة عمر الشريف في فيلم " دكتور زيفاجو" يمنعان أي أذن من ممارسة عملها في الإصغاء لما يقوله .. حسناً سأتحمل من أجل مشاهدة مباراة نهائي كأس العالم .. هل ستفعلها إيطاليا كما وعدت هذه المرة .. آمل ذلك حقا خصوصا أن " روبيرتو باجيو " عنده الكثير ليقدمه ..
أغلق شاشة خياله صوت السيدة عليّة مطالبة اياه بالتركيز لإحضار بعض الطلبات التى تناسب استقبال أخيها الدكتور علي .. لا إراديا أطلق عقل السيد محمد السقا الباطن 4 كلمات .. ساد بعدها صمت يشبه خبر وقوع وفاة في يوم فرح أحدهم "داهية تاخدك انت واختك " صمت هو بلا حيلة .. فكلماته هذه لا يمكن بأي شكل من الأشكال تغييرها لنفي القصد .. جاءت وصلة ردح السيدة علية كصوت احتكاك الطباشير بالسبورة الجديدة .. صوت منفر.. ويوتر الأعصاب .. حاول على قدر استطاعته صد الكلام وتغيير مساره حتى أغلق السماعة وكأن كلامها كان قوة مضادة لاتجاه وضع السماعة لا يستطيع التغلب عليها بسهولة ...
في هذه اللحظة دخل عليه السيد " مراد البلتاجي " كبير موظفيه ومساعده العتيق بشنب رفيع فوق شفته وبدلته المقلمة التي يرتديها يوم الثلاثاء دخل في تملق رتيب دائما ما يقف على بعد ذراع من مكتب السيد محمد السقا وينحني كنادل مخضرم واضعا الدوسيهات بكل حرص على مكتب مديره .. انفجر فيه السيد محمد السقا بلا ادني ذريعة قائلا " انت ازاي يا استاذ تخش عليا المكتب من غير ما تخبط .. يعني أنا أطرش .. وجايبلي دوسيهات ورق ليه .. انت بقالك هنا قد ايه في الشركة دي . وبقالك قد ايه بتشتغل معايا .. انت كمان بتفكر ترد عليا .. برة .. برة يا افندي .. " تقهقر "الأفندي" بحركة تشير إلى أن اسلافه كانوا حتما حجابا لسلاطين الدولة العباسية .. لم يعطيه ظهره الا عندما استدار بخفة ليفتح الباب .. ويغلقه خلفه بحرص .. تسمر قليلا في وضعه ناظرا للباب كأنه مراة .. عدل من هندامه وتأكد من وجود خصلات شعره في مكانها .. استدار في أنفة زائفة .. وذهب الى مكتب مدام " سعاد عبداللطيف " المنهمكة في كتابة رسالة لشركة العز للتجارة المحدودة على الالة الكاتبة .. بلا أي ذريعة انفجر قائلا : انتى ازاي يا انسة تحطي دوسيهات ورق في وسط الدوسيهات .. انسة ولا مدام انتى هتعدلي عليا .. يعني انا اعمى مبشوفش .. جتكو القرف موظفين تنابلة .." قال جملته الأخيرة مبعثرا أوراق الدوسيهات في الهواء فتساقطت كما ندف الثلج .. وولى مدبرا ولم يعقب ..
كان ما حدث في لحظة دخول السيد " صابر المستكاوي " في سرعة وخفة حمل كوب الينسون ووضعه أمام مدام سعاد وهم منصرفا كأنه لم ير شيئا .. اجتذبه صوت حاد من خلفه بلا مقدمات " انت ازاي يا سي صابر تقعد ساعة كدة على ما تجيب اللى طلبته منك جايبلي ينسون بارد .. يعني أرميه في خلقتك دلوقتى عشان تصدقني .. احنا اللى قعدنا ندلع فيك ونعطف عليك لحد ما بقيت تداينّا بفلوس الجمعيات .. لا يا سيدي محدش يبقشش عليا .. خد أهه جتك القرف وانت عامل زي نشالين الاتوبيس كدة " لملم السيد "صابر" الوريقات التى تحمل صورا لمساجد مصر الأثرية وابتلع الاهانة وولى منصرفا .. قابل في وجهه لحظة خروجه السيدة " أم توحة " رد على أمنياتها له بصباح يشبه الفل بقوله " يعني انا لما اقعد أنده ساعة كدة في المصلحة دي ومحدش يرد عليا يبقى ده اسمه ايه .. يعني انا مجنون بألف من دماغي .. انجري يلّا لمي الورق المتبعتر في مكتب مدام سعاد .. ده اللى انتى فالحة فيه .. عدي عليا اخر النهار تقبضي .. يعني هيا الفلوس هتطير .. طيب مش انتى مبتشحتيش شوفي بقى مين اللى هيقبضك فلوس الجمعية " ..
بعد قليل كانت أم توحة قد اصطدمت بالسيد "مختار عاكف " دون قصد وهي ترمي كيس القمامة الأسود الكبير أمام المصلحة .. اصصدم بها السيد مختار لأنه كان يتأمل تنسيق بوكيه الورد الذي دفع فيه تواً عشرة جنيهات ورقة واحدة .. كان يسير بخطى سريعة ايقاعها منضبط تماما ومتفقا مع كل البلاطات الصفراء على الرصيف .. يزيل الوبر العالق بالبالطو الذي ورثه عن والده المرحوم .. وينظر كل لحظة في ساعة لا يريد لها ان تشير الى وقت يعرضه للحرج أمام خطيبته .. بعد الاصطدام .. كانت الورود صرعى تحت أقدام أم توحة .. لملم ما بقي كدليل على صدقه هذه المرة ...وقرر أن يركب سيارة أجرة ويضحي بخمس جنيهات أخريات .. نتيجة لاستعجاله تعدى السيد عاكف على السيد " محيي علام " واغتصب حقه في ركوب سيارة الأجرة .. وأدى دفعه اياه لسقوطه على الأرض مبعثرا أوراق الأخير في الشارع .. انطلق سائق سيارة الأجرة بالسيد مختار وكان " مجدي المناخلي " يبادرفي مثل هذه المواقف زبائنه ملاطفا .. علّهم لا يساومنوه عند دفع الأجرة نتيجة تعكر مزاجهم .. لذلك أسرع للتخفيف عن السيد مختار بدعابة " تفتكتر الاسماعيلي هيغلب ولا المحلة " في اشارة مستترة الى المتنافسين على نهائي كأس العالم وهنا تكمن المفارقة التى نجحت مع كل زبائنه منذ الصباح .. نظر له السيد مختارباحتقار قائلا" خليك في حالك يا جدو وخش اليمين الجاي ده .. اليمين الجاي يا بني ادم .. انت مسمعتنيش .. اعمل انا ايه بأسف أمك ده .. وكمان عايز أجرة .. يا بجاحتك يا أخي .. "
اهتز السيد "مجدي" عند سماعه صوت ارتطام باب سيارته العزيزة .. وسرح بخياله في حسرة لاعنا الزمن الذي صار فيه الأوباش وبقايا القوم يركبون سيارته العزيزة .. لولا الحاجة وتبدل الأحوال لما تخلى عن مبدأه في اختيار زبائنه كما كان يفعل قديما .. قطع تفكيره كلمات السيد " محيي علام " اطلع يا اسطى بسرعة وبطلوا اللي بتشربوه ده بقى " انفجر فيه السيد مجدي " انزل يا ابن **** .. ايوة أنت ***** هوا فيه **** غيرك راكب في العربية .. يلا يا **** يا ولاد ال **** ... انا لسة هستناك لما تلم ورقك يا **** .. " اندفاع السيارة وسقوطه مرة أخرى على الأرض كان بمثابة نهاية العالم بالنسبة لمحيي .. كل ما كان يشغل باله وقتها هو كيف سينتجر بجرعة منوم زائدة أو بأن يرمي بنفسه من شرفته بالطابق الثاني عشر ... عند باب المصعد الكهربائي شعر محيي برغبة في البكاء عندما وجد ورقة مكتوب عليها بخط طالب ابتدائي " الأسانسير عاطلان " هكذا بألف بعد العين ... بقلب يضرب ضلوعه كثوري يهتف ببرائته في سيارة أمن مركزي .. فتح باب شقته .. ليسمع صوت التسجيل الصاخب بأغنية تجبر مؤخرة زوجته على التمايل كبندول الساعة .. لم يتحمل الموقف .. اقترب منها في الشرفة ورد على ابتسامتها ذات المغزى بقوله .. هوا انتى موراكيش حاجة في الدنيا دي غير تنقية الرز .. كان يوم إسود يوم ما اتجوزتك .. روحي في ستين داهية .. اديني سايبهولك اهه .. انا رايح اكل عند أمي .. حسك عينك تتصلي بيا عندها انتى فاهمة " غاص وجهها بين كفيها محاولة كتم صوت أنينها عن أعين الجيران الشامتة وعن شفاههن المتلمظة .. دخلت من الشرفة باتجاه التسجيل لإطفائه فلم يكن اليوم مثاليا أبدا لتدرك أن أسمهان لا تعرف شيئا عن تفاصيل حياة الذكر المصري .. عندها اصطدم بها "وائل" حاملا في يديه مسطرة مثبتتة بقلمي جاف عند أطرافها وقلم اخر في منتصفها .. وبشفاه تصدر صوت حرف V مضموم .. بعدما اصصدم بامه .. ضحك في براءة .. بعدها لم يفهم ماهية النقاط الملونة الصغيرة التى رأتها عينه حين هوت أصابع أمه الخمسة على خده الأيسر ... صمت لمدة أحس أنه قد أصبح كهلا .. ثم بدأ صوت بكاءه في التصاعد كصوت الغارات الجوية في الحرب العالمية الثانية التى كانت تملأ سماء ستالينجراد في ليالي عام 1945 الباردة المظلمة ...
اندفع "وائل" ناحية الباب وهرول باتجاه سطح البناية .. أسند ظهره الى الحائط ضاماً ركبيته الى صدره .. عندها لمح هرة تحاول البحث عن بعض ما علق بين ثنايا سلسلة ظهرية لسمكة كانت منذ قليل تغلي في زيت حارق ... حاول قذف الهرة بالحجارة وبقايا أعمال البناء فحال بين الهرة وبين وجبتها التى يندر ان تجد مثيلتها مؤخرا ... في المساء وقفت الهرة في شموخ ورفعت قدمها الخلفية اليسرى وحددت منطقتها على زجاج سيارة السيد " مجدي المناخلي " ... (انتهت )
No comments:
Post a Comment