Saturday, December 22, 2012

اخر سطر

بسم  الله الرحمن الرحيم 

بقطرات عرق نجحت في الهروب من مسامه .. تسمر محدقاً تجاه الخيال الرمادي المؤطر على الحائط الذي لا يواجه غيره مؤخرا .. هذا الحائط المصاب بالبهاق من أثر الرطوبة  وبعلامات ورسوم من عالم اخر رسمها يوما ما .. فضولي صغير ما .. لم  يلاحظ في العتمة ان هذا الإطار كان مميزا بشريطة سوداء في ركنه الأعلى .. عجيب ما قد تنساه ذاكرة الانسان .. او ما يعتقد الانسان ان ذاكرته قد نسيته .. اعتدل في  جلسته واخذ نفسا عميقا مشبع بالغبار وبقايا التبغ من الليلة الفائتة .. محاولا الاعتماد على ركبتيه في النهوض .. جال في باله خاطر غريب .. تخلص منه بازاحة الورق المكور الذى اعترض  طريقه .. صارت  الشقة مؤخرا مليئة بتلك الكور الصغيرة المنتشرة في كل مكان كفقاقيع الصابون التى كان يلهو بها وهو صغير ..  في طريقه الى غرفته القديمة استرعاه انعاكس صورته في مرآة الحمام مفتوح الباب  .. عاد خطوة واحدة الى الوراء لم تنتظر يده اليسرى اوامر منه  لتتجه الى زر الاضاءة .. وتوقف يتأمل هيئته  المزرية التي صار عليها .. هاتان الحمالتان المعلقتان على كتفه والتى  تحمل على وهن "فانلة مصفرة "  .. وسرواله القصير ذو الاطار المطاطي المرتخي كان بلا شك سيكون قطعة قماش في مطبخ أمه في الايام الغابرة .. تحسس  ترهلات  بطنه التي لا تتناسب مطلقا مع ايام  مجده التى قضاها في صالة سيد البتانوني لألعاب القوى .. شد سرواله القصير الساقط ليتذكر ذلك العضو القابع في اسفل بطنه الذي لم يستخدمه مطلقا الا للتبول .. سند كفه الأيمن على حوض غسيل الوجه واقترب أكثر من المرآة ليتابع تبعثر شعر وجهه .. شعر وجهه الذي لم يكتب له الحياة اكثر من يومين عندما كان أبوه حياً .. اليوم صار شعر وجهه اشبه بحرائش البوص التى كان يقبع فيها والده بالساعات في انتظار ان يهتز غماز صنارته .. يتذكره وهو  يسحبها ببطئ شديد .. ويخلص السمكة التي تجاهد نفسها وتجاهده لتحصل على اخر نفس من الهواء .. ببراعة يسحب الصنارة المعقوفة من فمها .. ويمسكها بين يديه متأملا .. ثم  يرمي بها مرة اخرى في الماء .. ويكلمه دون ان ينظر اليه .. "ده سمك زفر .. أمك بتغلب فيه عشان تنضفه .. وبنخلص عليه يجي نص كيلو لمون وبرضو مبيحوقش " ثم ينظر اليه بنظرة ذات مغزى .." هو كدة السمك زي البني ادم فيه الزفر .. وفيه اللى متفرنج تحب تتفرج على من جماله .. والاتنين ملهمش عازة ..  مبيتاكلوش " .
اغمض عينيه وخرج من الحمام  باتجاه غرفته محاولا اسكات صداع رأسه بلفافة تبغ .. كان  يعرف تفصيل غرفته فلم تذهب يده هذه المرة لاضاءة النور .. ولكنها ذهبت عند طرف سريره ممسكة بعلبة معدنية مستطيلة  في حجم الكف اخرج منها ورقة بيضاء  صغيرة .. بعد ان انكسر مقبض الخزانة المجاورة  لسريره اصبح فتح درجها عن طريق امساك ذلك المسمار امراً بالغ الصعوبة .. ولكن على اية حال فالوصول الى علبة التبغ امر يستحق العناء .. خصوصا عندما ينتابه ذلك الألم  الذي يشبه شد خيط على رأسك باحكام باتجاه طولي  نزولا الى المنطقة ما بين  العينين .. كان يحفظ علبة التبغ في الدرج حتى لا يدخل الهواء الى علبة تبغه العزيزة .. حتى أنه لم يكن يفتح الدرج الا بمقدار ما يسمح لأصبعين بالمرور للعلبة  لإلتقاط مقدار محسوب من الوريقات البنية الإبرية الشكل .. يطوي الورقة البيضاء بيده اليسرى مشكلة تجويفا يتأهب لاحتواء أوراقه الإبرية العزيزة .. يضع فيها ما التقطه اصبعيه من الدرج السحري ثم يسارع لإغلاق الدرج بركبته .. يوزع التبغ على طول الورقة بالتساوي .. ثم يطوي الورقة البيضاء باحتراف مثنيا على نفسه بجملته التى اعتاداها " يا سلام عليك يا ابو الاشراف " يلعق طرفي الورقة بلسانه في شغف .. ثم يدق مؤخرتها مرتين ليتم التأكد من تكدس التبغ في اللفافة .. ثم يضعها في فمه .. يتناول علبة الثقاب ويختار بعشوائية اقرب عود عثر عليه اصبعه .. يضع العود بين العقلتين الوسطيين لاصبعيه السبابة والوسطى .. ثم يحركه بخفة على مشط العلبة الخشن .. يحدث العود شرارة غضب في بادئ الأمر اعتراضا على مصيره  المحتوم .. ثم تذعن رأسه لمصير الاحتراق .. تضئ الغرفة لحظيا بوهج اللهب .. تتحلق باطن يديه في حنو على العود المشتعل ويقرب رأسه من يديه كأنه سيقبلها .. ثم ما تلبث حتى تعتم الغرفة ثانية الا من نقطة حمرا متوهجة في فم أبو الأشراف .. نظر ناحية ضلفتي دولابه .. لم تظهر العتمة صورته وهو يستلم جائزته من ذلك الرجل الأصلع مرتدي النظارات .. لم يكن يرى جملة " شباب الغد يستأثرون بجوائز الدولة للرواية " لم يكن يراها .. ولكنه كان يحفظها عن ظهر قلب .. على الضلفة الأخرى  تذكر نفسه وهو يقول تلك الكلمات التي اختارها بعناية ليظهر مدى معرفته بمؤلفات تولستوي .. وتحت صورته مزهوا بنفسه اقتباس لنيتشة يظهر به مدى اهمية ان يحلق الكاتب بأفكاره في  سماء الأدب متحررا من القيود ..كان يعرف تماما في اعماق مخيلته المظلمة انه لم يقرأ لنيتشة أو تولستوي سوى ما تشدق به أمام مندوبة المجلة الفاتنة .. كان يعرف ذلك بنفس اليقين الذي يعرف به اين  لصقت  صفحتا مجلة الأدب اليوم .

خرج من غرفته متجها الى غرفة أبيه وأمه .. في يوم ما كانت تنقل محتويات هذه الغرفة بحرص .. وربما كانت صديقات أمه وأقاربها يرصون بمرح متعلقاتها .. ربما مشت أمه بدلال بينهم فضحكت صديقاتها ضحكات جعلت أبيه يتنحنح محذرا  من الغرفة المجاورة .. فتتحول الى ضحكات مكتومة فيما بينهن .. بدأ النور يتسلل من ضلفتي الشباك معلنة عن بدء يوم جديد على كل الخلق الا هو .. لم يستطع دخول الغرفة دون ان ينهي سيجارته .. لم يستطع يوما ما أن يشرب سيجارة أمام أوبيه حيين كانا ام ميتين .. أخذ أخر نفس من سيجارته كأنه يقبلها .. نفس طويل بلا انقطاع  حتى امتلأت رئتيه بذلك السخام الملعون كمان كان يصفه عند اخر نفس .. كيف نريد شيئا بشدة في بادئ الأمر وفي نهاية استمتاعنا به يتحول الى محض لعنة .. كان ايضا يوما ما ملاك صغير يضحك الجميع في وجهه ثم أصبح فجأة "ابن كلب مسخم" كما كان يصفه أباه في مشاجراته مع أمه .. هناك بجانب المرآة كان يقف في  تذلل متوسلا أباه أن يسمح له بالخروج مع منير أبو العز .. في مشهد اخر في اخر اليوم وفي نفس المكان كان يقف بملابس متسخة .. وكانت أمه تحول بينه وبين أبيه مدافعة عنه .. بجوار الدولاب كان يقف رافعا يديه في الهواء مواجها الحائط .. كان  يمضي الساعات سارحا في خطوط الدهان الزيتي .. هذه الشروخ هي جبال الهمالايا التى سمع عنها . وهذا الجزء من الطلاء الباهت هي بحيرة البجع التي يراها في مجلة عالم الحيوان .. يظل هكذا لا يعرف كم مضى من الوقت .. حتى تأخذه أمه خفية الى غرفته بعد أن تتأكد أن أباه قد استغرق في النوم .. تضعه في سريره مربتتة عليه ماسحة على وجهه وجسده متمتمة بايات قرآنية متفرقة تبدأ ب "الله الذي لا اله الا هو .."  وتنتهي ب "من الجنة والناس " .

اتجه الى المطبخ ليحتسي فنجان قهوته الصباحية .. دائما كان المطبخ عسلي اللون .. مكسو بالقيشاني الرخيص حتى منتصف حوائطه .. وفي أعالي السقف تتراكم ثلاثون عاما من مخلفات الدهون الشبيهة ببقايا العسل الأسود .. كان يستغرب تشابه تفاصيل مطبخ بيته مع دكان "عم سميحة الفرارجي " الذي قتله ابنه "علي وزة "في ليلة كئيبة محاولا سرقة الايراد اليومي ليدفع ديونه المستحقة لـ "حمادة سوكة " امبراطور الكيف في منطقتهم كما كان يدعوه "علي" .. عجبا كيف أصبح يتذكر تفاصيل صغيرة لا تهمه على الإطلاق .. لماذا أصبح فجأة يتذكر الأموات ؟ .. انتبه الى كنكة القهوة التي كانت تهدده بالفوران المباغت .. صب قهوته بحذر حتى يحافظ على "الوش " وهو ما نجح فيه أخيرا  بعد محاولات يائسة ..
دلف من المطبخ الى الرواق الصغير المفضي الى غرفة الاستقبال .. لم يشأ أن يجلس على الصالون .. ذلك الصالون التى اجتهدت أمه في كسوته بقماش الإبيسون "الغالي" تجديدا لأثاث البيت .. استعدادا لزفافه المنتظر .. حتى وان لم يرتبط بأي فتاة الا  ان أمه كانت دائما " عارفة مصلحته " بهذا الشأن .. ولم يمهلها القدر أن ترى الصالون ولا حتى أن تدرك أنها لأول مرة كانت مخطئة في معرفتها لمصلحة أي أحد على الإطلاق .

اتجه ناحية الصالة  وجلس على مائدة الطعام المستطيلة المغلفة بمفرش  بلاستيكي شفاف  يحمي بدوره  مفرشا اخر مزين بورود حمراء متكررة  في رتابة في طول المفرش  وعرضه ..
اصبحت ذكرى ابيه  وامه تباغته  كثيرا هذه الايام دون معرفة الاسباب .. ما الذي دفعه ان يخرج صندوق أمه المقدس ويلتقط منها وثيقة زواجها .. أهملت عيناه ديباجة طويلة ليرتكز نظره دون وعي على الاسم الذي كان مصدر كل بؤس وشقاء في حياته .. دسوقي محمد عبدالعزيز السلاموني  والاسم الذي طالما اطمأن في حضن صاحبه فاطنة علي عبدالسميع مغاوري .. ربما كان انقطاع وحي الكتابة الذي لازمه مؤخرا هو عقاب إلهي لنسيانه متعمدا هذه الذكريات .. كان يسخر دائما من لوحة موضوعة في مكتب رئيس التحرير موجها انتقاده اللاذع له قائلاً " دوام حال ايه اللى من المحال  يا عزيز أفندي .. ده انت راجل أنتيكة بطربوشك ده " يرد عليه عزيز أفندي بحسرة .. " أنا شعري اللى تحت الطربوش اللى مش عاجبك ده ما ابيضش غير بعد ما عرفت معنى الجملة اللى مش عاجباك دي يا سي أشرف " ثم يتبعها بجملته المعروفة لدى الجميع " حط نكش الفراخ بتاعك اللى انت فرحان بيه  على المكتب هنا ووريني عرض كتافك " كان عزيز أفندي يلتهم مقالة أشرف الجديدة بنهم بعد أن كان الأخير يخرج من مكتبه .. هذه ما قاله له "عبدالصبور الفراش" عندما التقط قلمه الرصاص من خلف أذنيه ليدون حساب مشاريب الاساتذة الكلمنجية .. كمان كان يصفهم .. وهذا  ما كان يدفع أشرف للعبث مع "أبو طربوش" دونما  قيود لأنه يعلم  مقداره عنده .. حسنا كان هذا في الماضي .. الان هو صعلوك مفلس مختبئ في شقة ابيه وأمه  مغلقة النوافذ .. متحسسا دفتر مذكراته الجلدي العتيق  ابتسم في حسرة قائلا : "عرفت قصدك ايه من غير ما شعري يبيض يا أبو طربوش "

في نفس اللحظة كان الملعم شوقي أبو طبل يجلس بجلبابه البلدي وعمته الشهيرة محكمة الربط تزين رأسه  مستمتعا بشمس التاسعة ..يضع قدمه اليمنى على اليسرى في شموخ  .. يهز الخاتم في يده اليمنى ليشمر الكم عن ساعده الأيمن  كلما مرت امامه صبية في عمر ابنته نرجس ذاهبة الى المدرسة .. حينما نظر كل أهل الحارة فجأة الى منزل المعلم شوقي إثر سماعهم لصوت عيار ناري قادم من شقة دسوقى أفندي في الدور الثاني .. بدفعة بسيطة من كتف المعلم شوقي أذعنت ضلفتا الباب .. فتوافد أهل الحارة وامتلأت بهم الصالة ودرجات السلم .. كلهم كانو ينظرون إلى الاستاذ أشرف السلاموني وقد خنق نفسه بخيط الصيد ..  وحفرة بارزة بقطر 9 ملم  في صورة معلقة على الحائط .. كرجل عليم بمجريات الأمور صرف المعلم شوقي أهل الحارة قائلا " يلا كل حي يروح لحاله .. مفيش حاجة للفرجة .. حارة بنت كلب متتلمش غير في المصايب " .

بعد عدة ساعات رحل رجال قلم البحث الجنائي .. نزل رجل ذو هيبة من عمارة المعلم شوقي  يجر ورائه العديد .. مشددا على " سيد العطار " انه لابد  له من أن يسرع ليسلم التقرير ل " محمد بيه رأفت"  في مكتبه دونما  تأخير .. 

في اليوم التالي نشرت صحيفة أخبار اليوم خبرا في الصفحة الأولى فوق إعلان سيارات الكاديلاك باقتضاب ..( لغز مقتل الأديب الشاب .. البقية ص 12 )  وفي صفحة 12 بعد خبر تحطم الطائرة الخاصة التى كانت تقل لاعبي فريق مانشستر يونايتد الانجليزي .. ظهر خبر انتحار اديب الشباب أشرف السلاموني ... الأديب الشاب آثر الانتحار على أن يعيش في بلد تحت الإحتلال الانجليزي الغاشم .


بعد  عدة أسابيع عاد أسم أشرف السلاموني للظهور مجددا  على صفحات الجرائد .. "حصريا نشر مذكرات أشرف السلاموني "

في غرفة ما.. في  بيت  ما .. في حارة ما.. كان ياسر التهامي ذو السادسة عشر ربيعا يقرأ تلك السطور " غضبٌ , كرهٌ , جرحٌ , أسفٌ , ندمٌ , وحدةٌ , حزنٌ , ألمٌ , هو كل ما تبقى لي منك " عندما باغته أبيه بفتح باب الغرفة ... انت لسة "يا مسخم يا ابن الكلب " بتضيع وقتك في الهباب اللى بتقراه ده .. طول ما الهانم مدلعاك كدة عمرك ما هتنفع يا ابن ال.. يا .. يا ... .. لم يعد يسمع شيئا تحت وسادته ..  (انتهت )




No comments: