Monday, August 6, 2012

يوم الخميس

بسم الله الرحمن الرحيم


يعود من درس " الرياضة " ... يصلى المغرب ... لا يجد احدا في المنزل كالعادة .. يضع كتبه... يفكر في احد شيئين عادة ما اصبح يفعلهم مؤخرا ... هل سيخرج مع اصدقائه ام سيشاهد التلفاز او احد الافلام على الحاسوب .

يدخل اخاه الاوسط واجما ... هذا الوجه اصبح سائدا وعفويا في المنزل مؤخرا ... ولكن هذا الوجوم غريب هذه المرة


البداية
بدأ الامر منذ ستة اشهر تقريبا صوت قئ ابي في الحمام الساعة العاشرة ليلا ... كعادتى وكعادة جميع من في المنزل نقوم بتحويل اي موقف الى موقف فكاهي فقط لإزالة التوتر ... اقوم بافتعال اصوات قئ لتقليد ابي يضحك اخوتى ولكن ابي وامي لايضحكون كعادتهم عند سماع اي من تهكماتى ... يذهب ابي في اليوم التالي للطبيب ليخبره بأن لديه" تليف كبدي" ... يعلو صوت ابي في العيادة مخبرا الطبيب بانه مثل الحصان وان التحاليل اكيد خاطئة وانه عليه ان يتحرى الدقة في تشخيصه فهي "أرواح ناس مش لعبة " يعود ابي مستهزئا بما قاله الطبيب وكيف ان حال الطب قد تدهور في مصر مؤخرا .

تأخذ أمي الأمربجدية بالغة ويذهبون لطبيب اخر ليؤكد نتيجة التحاليل ... اذن فقد وقع الامر ولابد لأبي من نظام غذائي جديد ... ولكن من يستطيع اقناع أبي انه مريض ... ابي شخصية تحب الحياة يدرك جيدا ان يوم موته آت لا محالة لم ينكر ذلك يوما... ولكن لم يتخيل انه ذو الجسد الرياضى والبنية القوية انه سيموت مريضا ... يتجاهل ابي النظام الجديد ويتابع حياته بشكل عادي

نجلس على الغداء في الصالة كالعادة ... يجلس ابي على الكنبة في مواجهتى وبجواره امى ويتحلق اخوتى حول "صينية الأكل " لحم مسلوق ومحمر ومعكرونة وشوربة لسان العصفور ... كان الاكل بناء على طلب منى ... نتجاذب اطراف الحديث في شتى الموضوعات .. كلية اخى الاكبر - احوالى في مدرستى الثانوية - احوال العمل عند ابي وامى - لاجديد ننهى الاكل ويذهب ابي لقيلولته المعتادة ... وأستيقظ انا على صوت قئ جديد ... الامر لم يعد مزحة بعد الان على ابي الدخول في تلك الدوامة العلاجية شاء ام ابى
النظام الجديد
لا بروتينات حيوانية - لا ملح على الطعام - لا نشويات لا سكريات - باختصار لا شئ
كان ابي يكره ان يتحكم احد في مسار حياته ... كيف وهو من بنى نفسه بنفسه وبدأ من لاشئ تقريبا بدأ من تحت الصفر بمراحل كثيرة ... كيف الان يقبع في سرير المستشفى يأكل" جيلي" و"نسيرة" من صدر الدجاج وربع رغيف خبز وتفاحة يستغرب ابي جدا كيف ان الجالس على السرير الان هو ذا الشاب الذى اكل في مرة من المرات بطة كاملة او صينية بسبوسة من الحجم الكبير بمفرده والتى في رأيه كانت السبب في اصابته بمرض السكر ... من كان يأكل اذا 2ك لحم على الغداء ...حتما ليس هوا الجالس الان على السرير ...

تجارب جديدة
لم يعتاد ابي على الجلوس هكذا دون حراك هو اشبه بالسمك لا يستطيع التوقف (حتى وهو نائم) وهي صفة لامبالغة فيها فأبي به وسواس العمل .. لابد ان يتحرك تعلم العديد من المهن لهذه الصفة تعلم النجارة والسباكة واللحام والدهان والنقاشة وكل مهنة لا تخطر لك على بال ... ببساطة كان ابي يستطيع عمل اي شئ ... لا أصدق كيف تخرج من كلية الهندسة بتقدير جيد في ظل انشغاله بتعلم كل هذه المهن... اجد تناقضا بين مدير الادارات الهندسية وبين ذلك الشخص الذى ليس لديه ادنى مانع ان ينام تحت سيارتنا لاصالحها ... ورثت عنه الفضول للتعلم ولكنى لست نشيطا بقدره ... هو الان يقبع في سرير بلا حراك ولم يعد يستطيع الذهاب للحمام بمفرده ... في بادئ الامر كان يتضايق من جرح كبرياؤه امام ابناءه كيف يروا ابوهم الان لا يستطيع الذهاب للحمام بمفرده ... ابوهم الذى كان ينافس ابناؤه بأنهم سيملوا من كثرة العد قبل ان يتعب هو من اداء تمرين الضغط ... نعم وهو في سن الخامسة والخمسين يستطيع ان يصل لمائة " عدة ضغط " دون ان يظهر عليه التعب ... منتشيا وحامدا الله على الصحة ومترحما على جيل لا يستطيع فيه شاب ان يعد سنين عمره بعدات ضغط على حد تعبيره ... وكيف لاخر يقضي ساعات امام الكومبيوتر دون الانخراط في اي عمل مفيد .
الان عليه ان يتجاهل نظرات الشفقة من زواره ومحاولاتهم العبثية في تخفيف توتر الزيارة بسرد نكات سمجة ... يحتاج ابي لمستوى عالى جدا من الفكاهة حتى لا يشعر بالضجر ... لانه في نظري ونظر الكثيرين ممن عاشروه فكاهى وساخر من الدرجة الاولى ... هذه حال الدنيا فهي كالخيارة يوم في ايدك ويوم في ... السلطة يكفي ان يقول هذه العبارة حتى ينفجر الجميع بالضحك بما فيهم انا ... حتى وان كانت قديمة ومكررة ... ولكنه يقول الجملة بطريقة مختلفة كل مرة
اذهب لزيارة ابي في المستشفى لاجده تعرف على كل العاملين والاطباء والممرضين ولو نطقت الكلاب الضالة والذباب والقطط وكل ما يحيط بالمستشفى لسألنى عن صحة والدى كيف هو؟ ... كنت استغرب كيف له ان يكتسب صداقات بمثل هذه السرعة وفي فترة قصيرة جدا ... كيف يعرف تفاصيل التفاصيل عن حياة احد الممرضين وهو لم يره الا بالامس فقط ... هذا هوا الفخر الحقيقي ان تسير في السوق مثلا ويستوفقك احدهم : هوا انت ابن الباشمهندس محمد مرتضى ..... هذا هو ابي يشعرك بانه كامل دون ان يقصد ان يشعرك بذلك ... لا اعتقد ان احدا كان يفتخر بأبيه مثلما كنت افتخر به... اصلا لا اجد ما يعيبه ( قوي - مرح - مثقف - يعرف كل شئ واي شئ من السياسة الى الفن الى الدين الى الطبخ الى الادب الى الشعر الى كرة القدم الى الرسم الى اي شئ بمعنى الكلمة) وفوق كل ذلك هو شاب دائما ... لاتنطلى عليه اي خدع او مقالب ...لا نستطيع حتى ان نجاريه في افيهاته التى لا نعرف معظمها نحن ابناء هذا الجيل ... عليه الان ان يعرف اخبار العالم من جريدة لا يقرأها حتى بنفسه ... يأتيه الحلاق كل اسبوع لحلاقة ذقنه والاعتناء بشعيراته المتبقيةفي رأسه وهوا جالس على السرير ... لو كان ابي ذا شعر طويل ما كان ليكون منظره اجمل مما هو عليه ... شعره كشعر الاطفال غاية في النعومة ولكن ما برأسه من صلع يجعله اكثر جاذبية من حسين فهمي :) ...

الانتقال
تقرر امى ان هذا المشفى لا يناسب ابي وانه إن انتقل الى مشفى اخر فربما تتحسن حالته النفسية هذا فضلا عن مصمصة شفايف بعض الزوار ولسان حالهم يقول ( دول كانوا في السعودية مستكترين عليه مستشفى خاص ) .
لم اكن اعرف بتطورات مرض ابي ... ليس لعدم معرفتى بتفاصيل المرض ومسبباته فحسب ولكن ايضا لأن احدا لا يطلعنى على شئ اذا ذهبت للمستشفى ادخل على ابي في الجناح فينقطع الكلام او يتغير لموضوع اخر ... والغريب انى لم اكن اتضايق كنت على اقتناع تام بأن ابي لن يقهره المرض ابدا وسيحكي لي عن كل شئ بعدما يتعافى كعادته .

لا تغيير في كلام الاطباء غير ان احدهم اخبر امى بانه العلاج لن يجدي نفعا بعد الان وان المسألة مسألة وقت ليس الا ... تتغاضى امي عن الموضوع وتقول بانه هناك دائما امل وتسرد حكايات عن اطباء اخطأوا في تشخيص امراض كثيرة وتعافى اصحابها واعتذر اليهم الاطباء ... من المعادى لمدينة نصر للمهندسين اسماء كبيرة لأطباء مجرد سماع اسمها يوحي بالشفاء ... تقبع سيارتهم الفارهة خارج ثكناتهم الطبية ... تدخل هذه المنشئات وتكتشف لاول مرة ان هناك عيادات تحتوى على غرف واسرة للمرضى ... وكيف لي ان اعرف وانا لم اذهب لطبيب في حياتى .
يلح خالى ( الطبيب ) على امي انه لا نفع من صرف المزيد من المال فكل شئ بيد الله ولا يستطيع اي انسان تغيير القدر ... تتجاهل امى كلامه وتتابع رحلة العلاج ( الشاقة جدا )

القمة
ادخل المنزل بعد عودتى من درس الفيزياء اجد المنزل مضاءا بكل ما استطعنا من انوار استغرب الامر واتوقع ان ابي قد عاد ولكن كيف وكان البارحة في اسوأ حالاته على حد تعبير اخي حتما يجربون اضواء منزلنا الجديد ( الذى لم يجلس فيه ابي سوى على السرير فقط ) يعترض اخى طريقي على السلم الداخلى ويقول لم لم تذهب لزيارة ابيك اليوم ؟ الا تحب ابيك ؟... استغرب طريقة كلام اخي وتزداد شكوكي انها مزحة ما وان ابي حتما في المنزل اتلعثم في الكلام واقول بان اخى الاوسط قال ان حالته سيئة و..... امد رأسي فأرى ابي يكتم ضحكته ... اجري مسرعا الى غرفته ... حمدا لله على السلامة يا عم محدش قال ليه طيب كنت جيت ... فعلا اصبح بصحة افضل وجهه اصبح لاحما اكثر بعد ان كان جلدا على عظم ... اصبح وجهه اكثر اشراقا وتخلى عن هذا الوجه العابس المكتئب اليائس ... هذه روح ابي الذى اعرفها ... اجلس بجانبه بينما تنهمك امي بترتيب المطبخ ... ها قد عادت حياتنا الى طبيعتها لم يبق الا ايام ويعود ابي الى العمل ... اخبره باحوالى ولماذا يمنعنى امي واخوتى من زيارته ؟ ( هما قايمين بالواجب انتبه لمذاكرتك انت بس ) اصاب باحباط لسماع مثل هذا الرد ... لماذا يبعدني ابي عنه هكذا ؟ ... اما عاد يحبني كالسابق ؟.. اما عدت ابنه المفضل ؟ ... هل يعتقد انى اتخلى عنه ؟ يكسر ابي الصمت ويسألنى عن رأيي في المنزل الجديد ... اخبره انى لا احب المنزل الجديد وان شقتنا الصغيرة كانت افضل وكيف انى احن الى حينا القديم والى اصدقائي والى مدرستى ... يخبرنى بان الملك افضل الايجار وانه قريب من كلية والدتك واخيك واذا كان على مدرستى فكلها ايام ويعود للعمل وسيأخذنى معه بالسيارة كل صباح
اذن لا عودة
دعا ابي الناس لمباركة المنزل الجديد ... كميات هائلة من البشر اقارب ومعارف لم ارها في حياتى اضطررنا لتفريغ المنزل من الاثاث ليتسع لهذه الوفود الرهيبة ... يجلس ابي في صدر المنزل يشخط ويعلو صوته في وفي اخوتى لكي نتحرك بهمة اكثر ...هذه عادته يتعصب في هذه المواقف وينهرنا بصوت حاد ( اعمل ده وسوي ده ... اصلكو مش رجالة ) وكان هذا عيبه الوحيد يتعصب جدا اذا ما اسند الينا القيام باي عمل ... هو الان اكثر حدة ليبين للناس انه مازال ذاك الاسد الذى لولا مرضه ماتجرأ احد منكم على رمقه بنظرات الضعف والشفقة تلك ... ولكن عما قريب سيخرس الافواه ويرد نظراتكم في نحوركم. ياكل ابي من اللحم وتجزع امى عندما تعلم بذلك ( محدش له دعوة انا بقيت كويس خلاص ) يظهر على امى الاضطراب والقلق .... من تلك اللحظة واحس بها تفكر بان هذه بداية النهاية ... ولكنى اكذب نفسي ليس ابى من يهزمه المرض
تسارع
دخل ابي الحمام برفقة مي واخي الاكبر على مدى خمس مرات هذا اليوم ... الوضع لا يطمئن ... منذ متى ويرضى ابي بدخول اخى معه للحمام حتما هوا متعب لدرجة لا يشعر بالخجل او جرح الكرامة ... تبا ليس هذا وقت للحديث عن الكرامة علينا انقاذ ما يمكن انقاذه ... ينتهي اليوم بوعد من امي لنا ان غدا سيكون حاله افضل ... رغم انها لم تقل شيئا ... لم يعد احدا يقول شيئا ... صرنا نتحادث بالنظرات
ها نحن نبدأ
لم يعد لابي القدرة على الذهاب للحمام ... صار كل شئ على السرير الان : نومه - اكله علاجه - حتى قضاء حاجته... صار اكثر عبوسا وعصبية من اي وقت مضى ... وصار لسانه ثقيل في الكلام ولونه شاحبا ...
- ازيك يا حاج انهاردة ؟
-متقوليش يا حاج ايه يا حج دي ...
- طيب ازيك يا عم ؟
-اخرج يلا من هنا مش عايز اشوفك غور من وشي ... يغمزني عمي بنظرة توحي بكلمة معلش ... اخرج انا من الغرفة متمنيا ان تسرع الايام بالشفاء ... لن يهزم المرض ابي ابدا

احاول انهاء واجب الفرنسية واستعد للذهاب الى الدرس ... يصرخ اخى الاكبر: تعالى يا عبدالله بسرعة امسك رجل ابوك ... اتصرف لا اردايا انا لا اعي ما يحصل ... امسك جامد بقولك ... يتصرف ابي كثور هائج لا نقوى نحن الثلاتة على امساكه ... حتى في ذروة مرضه قوي ... تتوارد الي الافكار ..كيف ساصبح في مرضي ... هل سأكون قويا مثله ... هل سانجب اولادا يمسكوننى ويجبروننى على تناول حقنة شرجية .... هل سأتزوج اصلا ... هل سترعانى زوجتى كما رعت امي ابي ام ستتأفف وتودعنى المستشفى حتى يقضي الله امرا كان مفعولا ... لا عجب فنحن نسمع عن تلك الحكايات هذه الايام ... وكيف بعشرة السنين تضيع في الهواء ...لمجرد المرض ... ربما لن اتزوج حتى لا اعرض زوجتى وابنائى لمثل هذا الامر ... والحمد لله ان ابي انجب ذكورا ...

يهدأ ابي ... تشكرأمي الممرضة ( الممرضة هي زوجة بنت عم امى ) اعود لغرفتى بصدر لاهث ... قلبي يخفق بشدة ... اذن لهذا السبب لم يشركوني معهم في مناوبات ابي للمستشفى .. ايعتقدون انى صغير على تحمل مثل هذه الامور ؟... طبعا لا اطيق رؤية ابي هكذا؟ ... ولكنى لست طفلا من الشارع حتى يقصوننى عن ابي هكذا لمجرد حمايتى من رؤية ابي في مثل هذه المواقف ... على أية حال اليوم الاربعاء ولابد ان اذاكر باقي المواد حتى يتسنى لي فرصة لمذاكرة مادة اللغة العربية التى سأمتحنها يوم السبت اي بعد يومين فقط ....

تنادى امى بصوت مرتفع .... اطلب الاسعاف حالا ... اتحرك بسرعة ... تطلب هي الاسعاف بينما اطلب اخوتى للحضور ... اول الواصلين كان اخى الاوسط وجاء رجلان يحملان سرير الاسعاف ذو اللون البرتقالى ويحملان ابي للذهاب فورا لمستشفى القصر العيني ولا جديد (نقل الدم - حقن للمرئ - غيبوبة قصيرة - يفيق - يعود للمنزل ) يتجمهر سكان الشارع امام المنزل لرؤية سيارة الاسعاف ... تنهرهم امي بكل قوة قائلة : واقفين تتفرجوا على ايه ؟... اعلم ان امي قوية ولكن لم اتخيل انها قوية لهذه الدرجة... يركب امي وأخي الاوسط في سيارة الاسعاف ... اجلس في المنزل في انتظار اخى الاكبر ... اخرج المرتبة في الشمس ... وانتظر
يأتى المساء اجلس على الكومبيوتر مشاهدا فيلم يدخل اخي الاكبرمن الخارج محاولا اخبارى بشئ ...
- انت عارف بابا وضعه عامل ازاي ...؟
-اه عارف انتو فاكريني مبحسش ولا ايه ؟ عارف ان وضعه خطير وخطير اوي كمان
- وانت مين قالك ؟
- سمعت ماما بتتكلم مع خالو ... لم تحدث امي اي احد ولكنى احسست بهذا ولن يصدقنى اخي اذا اخبرته انه مجرد احساس
يتركني اخي واعود انا لمتابعة الفيلم ...كلهم ذهبوا الى المستشفى الان وانا اجلس وحيدا في المنزل ... لا يوجد اكل .. ولا رغبة لي في الاكل ... ليس لحالة والدى ولكن لا ادري ليس لي رغبة في الاكل ... انام

اليوم الموعود
اليوم هو الخميس ... لا اصدق ان كل ما حدث حدث في يومين ... اعتقد ان ما حدث يكفي لاعادة تصوره في اسبوع كامل وليس في يومين ... اعود الى المنزل من "درس الرياضة "... لااجد فيه احدا كالعادة... اضع الكتب ... اصلى المغرب ... افكر في شيئين صرت افكر فيهم مؤخرا ... هل سأخرج مع اصدقائي ام سأتفرج على احد الافلام على الكومبيوتر ... يدخل اخى الاوسط بوجه واجم ... اصبح الوجوم عفويا وسائدا في هذا المنزل مؤخرا ... ولكن هذه المرة وجوم غريب ...
- مش عايز تروح تشوف بابا يا عبدالله ؟
- اخيرا رضيتو عنى وهتخلونى اشوفه يعني ؟
-طيب يلا البس ؟
- انا جاهز يلا بينا
نغلق الانوار ونتمم على المنزل ... يغلق اخي المياه والغاز وكأننا سنغيب لمدة طويلة ... ما كل هذا القلق الزائد من امي واخوتى ... اي مرض هذا الذى يتغلب على ابي؟ .... وكأنهم لا يعرفونه ...
-انت عارف يا عبدالله ان بابا حالته خطيرة قد ايه ؟
-ايوة عارف بس ان شاء الله خير وهيقوم منها زي ما بيقوم كل مرة
-يابنى ابوك في ال end stage خلاص مبقاش في حاجة تتعمل ... يمكن يقول وصيته ولا حاجة
- لا اله الا الله يا جدعان بتقولو كدة ليه كله خير باذن الله واحسنوا ظنكو في ربنا... ربنا كبير يا جماعة اهدوا انتو بس وبطلو القلق ده
يوجه اخى نظرة لم افهمها في وقتها ... فهمتها عندما استرجعت الاحداث ... مفادها "انك مشفتش حاجة لسة دلوقتى تشوف"
ركبنا ميكروباص متجه الى احمد حلمى ... هذا قبل ان يبنى مجمع المواقف الحالي .. كانت السيارات مباشرة عند كلية الطب او عند الاهرام من اي مكان يمكنك الركوب بسهولة وفي اي يوم من ايام الاسبوع
نصل الى احمد حلمى ... اركب المترو ... نغير في السادات وننزل في محطة السيدة زينب ... نمشي بضع خطوات حتى نصل الى مستشفى القصر العيني الفرنساوي ... لم اكن اعرف وقتها الفرق بين القصر العيني الفرنساوي والقصر العينى العادي الذى يأتى في الافلام فقد كان الفرنساوي راقيا بكل معنى الكلمة غير هذا الذى في الافلام ... لمذا يسبون الدولة اذا وعندنا هذا المشفى الفخم ... نصل عند البوابة يمنعنا حارس الامن من الدخول لانتهاء مواعيد الزيارة ... يتعصب اخي عليه ويقول بانه كان توا في الاعلى وقد خرج اضطراريا ليأتى بي ... ويظهر اخي كارنيه الكلية ويخبر الحارس بأنه يحق له الدخول اي مستشفى او هيئة طبية بهذا الكارنيه يصادق الرجل على كلامه ويخبره بانه يمكنه الدخول معززا مكرما اما انا فلا ... ينهره اخي ويقول: ابوه في العناية المركزة بين الحيا والموت ولازم يطلع يشوفه ... في النهاية يسمح لنا الحارس ... ويتعجب اخي من تماسكي الشديد وعدم ارتباكي كالاخرين نصعد الى الدور المطلوب اجد اعمامي في ساحة الاستقبال اسلم عليهم ويأخذنى اخي من يدي كالاطفال لأدخل العناية المركزة تعترضنا الممرضة : - لو سمحت مينفعش حد يدخل ...
قال اخي : ده ابنه ولازم يشوفه لو سمحت ( او شئ مثل هذا لا اتذكر )
-قالت : طيب اتفضل استريح انت برة وانا هوصله

نظرة اخيرة
الغرفة كبيرة جدا تتتحرك الممرضات حركة دؤوبة ولكن بلا صوت لا يسمع سوى صوت اجهزة القلب واجهزة التنفس الصناعى تسمع بكل وضوح سريان الهواء في مثل هذه الاجهزة تكشف الممرضة الستارة ... اهلا بك في اقوى صدمة في حياتك ... ابي موصول بعدد لا نهائي من الخراطيم مستغرق في غيبوبته ... يرتعد بشدة لدرجة ان السرير يهتز .. يرتعد كشخص موصول بالكهرباء في ليلة ممطرة .. نعم هذا اقرب تشبيه لحالته .. شخص موصول بكهرباء في ليلة ممطرة ... لا تدري ايرتعد من شدة البرد ام من شدة التيار الكهربائي ... لست ادري ما افعل حينها ... انعقد لسانى ... لم ادري ما اقول ... فجأة وجدتنى اقرأ سورة يس ... واستغربت انى احفظها من الاساس ... قرأت ما تيسر ... وغادرت في وجوم ... كهذا الذى كان على وجه اخى ... اصطنعت اللامبالاة ... لكن خرجت تنهيدة عميقة من صدري ... وقلت لأخى : لا اله الا الله يا اخى ... قال : يا عم مش انت قلتلنا متقلقوش واحسنوا الظن بالله وبتاع راح فين الكلام بقى اللى كنت بتقولهولنا

اصطحبنا اخى الاوسط انا وامى وتركنا اخي الاكبر في ساحة الاستقبال .. استقللنا تاكسي من السيدة زينب الى فيصل ... لا ادري الى الان ما المسافة ولكنى كنت احسها قصيرة جدا لدرجة انى استغربت لم طلب لنا اخي سيارة اجرة بالاساس؟
ذهبنا الى شقة اخي ... شقة صغيرة كان قد استأجرها هو وابن صديقة لوالدتى ليكونا قريبين من الكلية " بدل السفر والشحططة " على حد زعمهم اكلت امي لقيمات بسيطة لاول مرة منذ يومين اعاد اخي ترتيب السرير ولكنها اصرت على النوم على الارض تلك الليلة ... وطبعا لم نكن لننام على السرير وتنام امى على الارض فنام ثلاثتنا على الارض ونمنا لأول مرة منذ يومين واكثر من 4 ايام لوالدتى .

راودنى حلم باننا نجلس كلنا انا وابي ونشوي سمكا ولكن السمك لم يكن لينضج ... لا ادري الى الان اكان حقا حلما ام كان تفريغات عقلى الباطن ... استيقظت امي حوالى الساعة الثالثة فجرا تقريبا اسندت ظهرها الى الحائط وكأنها علمت ان ابي قد توفى ولكن لم تشأ ان تخبرنا (وفعلا كان قد توفى في تلك الساعة بالظبط وهذا ما كتب في تقرير الوفاة ) اخبرت امى بالحلم الذى رأيته ... ردت كأنها تشعر انى ألفت هذا الحلم خصيصا لها للتخفيف عنها وقالت : السمك في الحلم خير ورجعت نامت ...او تظاهرت بالنوم ... في الصباح توجهنا الى المستشفى وجلسنا في الانتظار في الدور الارضي ... رن اخى الاكبر على اخى الاوسط رنة قصيرة ولكن كانت الرنة تكفى ... فهمت مغزاها ... قال اخى: بابا توفى يا عبدالله يلا بينا نطلع ... صعنا لنفس الدور الذى كنا فيه البارحة وجدت امي واخى الاكبر ... امي تبكي ... لاول مرة في حياتى كلها ارى امي تبكي ... تلك القوية الى لم تظهر هذه اللحظات ابدا ... هي الان تبكي امامي ... ذهب اخواي للقيام بالغسل واستخراج شعادة الوفاة .... ويتعجب الموظف ان مكان الدفن هو مكان الولادة ( حي السيدة زينب ) بالرغم من انه يسكن في بنها ... منعونى من الذهاب معهم بحجة البقاء مع والدتى .. استمرت امي في البكاء للحظات وهي تقول انا لله وانا اليه راجعون ... كررتها مرارا وكانت تظن ان صوتها مرتفعا فكانت تقولها بصوت منخفض .... استجمعت قواها اخبرتنى ان اعود للبيت لافتح المنزل لمن سيأتى وينظفه استعدادا لمراسم العزاء والدفن ...
- قالت : معاك فلوس
- ايوة معايا
- هتعرف ترجع لوحدك ... قلتلها طبعا انا عارف المنطقة كويس ... وكانت اول مرة اذهب فيها الى القصر العيني الفرنساوي في حياتى ... ولكن لا يوجد اجابة اخرى في مثل هذه المواقف ... طمأنت امي وجلست بجانبها واخبرتها ان كل شئ بيد الله ... وان الله يقدر الخير لعباده ... وصمتنا للحظة ... اعطتنى امي تعليمات صارمة بغلق الغرف وعيني اللى لازم تبقى وسط راسى عشان محدش يستغل الظروف ويستغل انشغال الناس بالتنظيف ويسرق اي شئ من البيت .... عدت في ميكروباص ... كانت الساعة الثامنة صباحا تقريبا وسائق الميكروباص يسير ببطئ شديد وصوت الكاسيت عالى جدا تخرج منه اغانى غريبة لعبدالحليم لم اسمعها من قبل او هكذا خيل الي ... وصلت ووجدت 5 سيدات في انتظارى اعرف اثنتان منهن ... وكلهن من "البلد" فتحت لهن الباب ... باشرن بعملية التنظيف بينما شرعت انا انفذ تعليمات والدتى ... جاء خالى ( الطبيب ) ليأتى بطلبات المنزل سأل السيدات عن الناقص فأخبرنه ... سألنى عندكو قهوة .. قلتله بكل سذاجة احنا مبنشربش قهوة ... فردت احداهن هات كيلو وهات كنكتين إربع وكنكتين تقديم يا ضاكتور ... ما هذه الطلاسم ما هي الكنكة الإربع وهل لا يوجد كنكة في بيتنا ؟؟

مراسم
وصل اخوتى وامى واخبرونى في الهاتف انه يجب على النزول حالا حتى نذهب الى الدفن بقيت امي وذهبنا نحن ... وصلنا باكرا الى مسجد القرية وكانت تتبعنا عربة دفن الموتى يجلس فيها اخي الاكبر بجوار السائق ... وضعنا النعش في اقصى زاوية من المسجد ... استمعنا الى خطبة الجمعة وصلينا صلاة الجمعة ... ثم صلاة الجنازة ... وخرجت لألبس الحذاء تمهيدا لخروج النعش وفوجئت بكم غير معقول من البشر حتى ان اهل القرية استغربوا هذا العدد الهائل من البشر تحرك النعش ربطت حذائي مسرعا واخترقت الناس للوصول الى النعش للمساعدة في حمله ... كان النعش مرتفعا فلم يصل ايه كتفي آنئذ .. فاكتفيت بالسير تحته ووضع يدي من اسفله وكأنى احمله حتى وصلنا الى المدافن ... لا اعلم ماذا حصل .. ولكن فجأة وجدت نفسي بعديا جدا عن القبر الذى سيدفن فيه ابي ... الى الان لا اعلم ماذا حصل فعلا ... حاولت اختراق الناس مجددا ولكن كان حجم البشر كبير جدا على هذا المكان الضيق ... وقفت على بعد امتار من القبر ... القى احدهم موعظة قصيرة بعدها حمل اخواي جثمان ابي واهالو عليه التراب .. كل هذا وانا بعيد لم استطع الوصول للقبر ... كم تحسرت كثيرا على هذا الموقف ... قال احدهم بصوت جهوري ... الوصية مفيش صوان العزاء يقتصر على اخد الخاطر ... قال احدهم : ليه كدة بقى ... رد الاخر انت شايف الناس عاملة ازاي هيقعدوهم فين دول كلهم ... كان هذا اول دفن اراه في حياتى ... حضرت دفنا وسرت في جنازات العديد من المرات ... ولكن تختلف عندنا تكون الجنازة تخصك انت ... وقفنا لاخذ الخاطر ... وقفنا في طابور طويل ووقف المعزون في طابور اطول امتد لدرجة انك لا ترى اخره ... وكان اخذ الخاطر يقضي بأن يسلم اقارب الميت على كل من حضر الجنازة ... انتهينا من اخذ الخاطر بعد ساعة ونصف ... بعدما انصرف الناس ذهب اخواي وانا الى القبر لنقرأ الفاتحة ... بكى اخى الاوسط ... تأبطه اخي الاكبر مخبرا اياه ان عليه ان يتماسك على الاقل امام الناس ... لم ابكي ... ولا حتى دمعة واحدة ... ولكن كان هناك جبل على صدري لدرجة احسست معها برغبة عارمة في النوم من شدة الضيق ... ولكن تحسرت بشدة لأنى لم ابكي ... اثناء طريق عودتنا لا ادرى ماذا قال لي ابن عمتى فضحكت ... نهرني اخى ونهر ابن عمتى ... وانه ليس وقتا مناسبا للضحك .. اوضح له انه يريد ان يخفف عنى .. قال اخى : ولو ... انت عايز الناس تقول ايه !! فزاد ضيقي ضيقا

عدنا الى المنزل وجدنا اقاربنا في انتظارنا... ووجدنا "الاكل جاهز" ... لم نأكل الا أقل القليل... صعد كل منا الى غرفته ونظرت الى اخى الاوسط ونظر الي قلت له بأنى اشعر انى كنت في جنازة شخص اخر غير ابي ... وان الاحداث مرت مسرعة جدا لدرجة انى "مش مصدق " انو مات ... ولكن قلت في نفسي ها قد مات ابي ... ولم يتغير شئ لماذا يظن الناس ان موت الاب او الام يغير حياة الاسرة .... لم اعرف حينها ... لكن عرفت الان .

-----------
اللهم اغفر له وارحمه واهده واجبره وعافه واعف عنه واكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس وابدله دارا خيرا من داره ونزلا خيرا من نزله وزوجا خير من زوجه وولدا خير من ولده ... اللهم زد في حسناته وتجاوز عن سيئاته وافسح له في قبره مد بصره ... اللهم قه الفزع الاكبر يوم لا يفزع من أمنتهم .. اللهم ثبتنا عند السؤال ... اللهم انس وحشة قبره وانسه بدعائي هذا يارب العالمين ... اللهم لا تقطع دعاءا يصل اليه ... اللهم اجعلنى عمله الصالح الذى لا ينقطع بعد موته ... اللهم اجمعنى به واهلى في الجنة مع حبيبك المصطفى ياارحم الراحمين ... الحمد لله رب العالمين

No comments: